تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 246 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 246

246 : تفسير الصفحة رقم 246 من القرآن الكريم

** يَبَنِيّ اذْهَبُواْ فَتَحَسّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رّوْحِ اللّهِ إِنّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رّوْحِ اللّهِ إِلاّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ * فَلَمّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَأَيّهَا الْعَزِيزُ مَسّنَا وَأَهْلَنَا الضّرّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدّقْ عَلَيْنَآ إِنّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدّقِينَ
يقول تعالى مخبراً عن يعقوب عليه السلام: إنه ندب بنيه على الذهاب في الأرض يستعلمون أخبار يوسف وأخيه بنيامين, والتحسس يكون في الخير, والتجسس يكون في الشر, ونهضهم وبشرهم وأمرهم أن لا ييأسوا من روح الله أي لا يقطعوا رجاءهم وأملهم من الله فيما يرومونه ويقصدونه, فإنه لا يقطع الرجاء ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. وقوله {فلما دخلوا عليه} تقدير الكلام: فذهبوا فدخلوا مصر, ودخلوا على يوسف {قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر} يعنون من الجدب والقحط وقلة الطعام, {وجئنا ببضاعة مزجاة} أي ومعنا ثمن الطعام الذي نمتاره, وهو ثمن قليل, قاله مجاهد والحسن وغير واحد. وقال ابن عباس: الرديء لا ينفق مثل خلق الغرارة والحبل والشيء, وفي رواية عنه: الدراهم الرديئة التي لا تجوز إلا بنقصان, وكذا قال قتادة والسدي. وقال سعيد بن جبير: هي الدراهم الفسول. وقال أبو صالح: هو الصنوبر وحبة الخضراء, وقال الضحاك: كاسدة لا تنفق. وقال أبو صالح: جاءوا بحب البطم الأخضر والصنوبر, وأصل الإخاء الإزجاء لضعف الشيء, كما قال حاتم طيء:
لبيك على ملحان ضيف مدافعوأرملة تزجي مع الليل أرملا
وقال أعشى بني ثعلبة:
الواهب المائة الهجان وعبدهاعوذاً تزجي خلفها أطفالها
وقوله إخباراً عنهم {فأوف لنا الكيل} أي أعطنا بهذا الثمن القليل ما كنت تعطينا قبل ذلك, وقرأ ابن مسعود: فأوقر ركابنا وتصدق علينا. وقال ابن جريج: وتصدق علينا برد أخينا إلينا. وقال سعيد بن جبير والسدي {وتصدق علين} يقولون: تصدق علينا بقبض هذه البضاعة المزجاة, وتجوز فيها. وسئل سفيان بن عيينة: هل حرمت الصدقة على أحد من الأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال ألم تسمع قوله: {فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين ؟} رواه ابن جرير عن الحارث, عن القاسم عنه. وقال ابن جرير: حدثنا الحارث, حدثنا القاسم, حدثنا مروان بن معاوية عن عثمان بن الأسود, سمعت مجاهداً وسئل: هل يكره أن يقول الرجل في دعائه: اللهم تصدق علي ؟ قال: نعم, إنما الصدقة لمن يبتغي الثواب.

** قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوَاْ أَإِنّكَ لأنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـَذَا أَخِي قَدْ مَنّ اللّهُ عَلَيْنَآ إِنّهُ مَن يَتّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ
يقول تعالى مخبراً عن يوسف عليه السلام, أنه لما ذكر له إخوته ما أصابهم من الجهد والضيق وقلة الطعام وعموم الجدب, وتذكر أباه وما هو فيه من الحزن لفقد ولديه مع ما هو فيه من الملك والتصرف والسعة, فعند ذلك أخذته رقة ورأفة ورحمة وشفقة على أبيه وإخوته, وبدره البكاء فتعرف إليهم, فيقال: إنه رفع التاج عن جبهته, وكان فيها شامة, وقال {هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون} يعني كيف فرقوا بينه وبين أخيه {إذ أنتم جاهلون} أي إنما حملكم على هذا الجهل بمقدار هذا الذي ارتكبتموه, كما قال بعض السلف: كل من عصى الله فهو جاهل, وقرأ {ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة} الاَية, والظاهر ـ والله أعلم ـ أن يوسف عليه السلام إنما تعرف إليهم بنفسه بإذن الله تعالى له في ذلك, كما أنه إنما أخفى منهم نفسه في المرتين الأوليين بأمر الله تعالى له في ذلك, والله أعلم ولكن لما ضاق الحال واشتد الأمر, فرج الله تعالى من ذلك الضيق, كما قال تعالى: {فإن مع العسر يسراً إنّ مع العسر يسر} فعند ذلك قالوا {أئنك لأنت يوسف ؟} وقرأ أبي بن كعب {إنك لأنت يوسف}, وقرأ ابن محيصن {أنت يوسف}, والقراءة المشهورة هي الأولى, لأن الاستفهام يدل على الاستعظام أي أنهم تعجبوا من ذلك أنهم يترددون إليه من سنتين وأكثر وهم لا يعرفونه وهو مع هذا يعرفهم ويكتم نفسه, فلهذا قالوا على سبيل الاستفهام: {أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي}.
وقوله: {قد منّ الله علين} أي بجمعه بيننا بعد التفرقة وبعد المدة {إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين * قالوا تالله لقد آثرك الله علين} الاَية, يقولون معترفين له بالفضل والأثرة عليهم في الخلق والخلق والسعة والملك والتصرف والنبوة أيضاً, على قول من لم يجعلهم أنبياء, وأقروا له بأنهم أساءوا إليه وأخطأوا في حقه {قال لا تثريب عليكم اليوم} يقول: أي لا تأنيب عليكم ولا عتب عليكم اليوم, ولا أعيد عليكم ذنبكم في حقي بعد اليوم, ثم زادهم الدعاء لهم بالمغفرة فقال: {يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين} قال السدي: اعتذروا إلى يوسف فقال: {لا تثريب عليكم اليوم} يقول: لا أذكر لكم ذنبكم: وقال ابن إسحاق والثوري {لاتثريب عليكم} أي لا تأنيب عليكم اليوم عندي فيما صنعتم, {يغفر الله لكم} أي يستر الله عليكم فيما فعلتم {وهو أرحم الراحمين}.

** اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىَ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ * وَلَمّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ * قَالُواْ تَاللّهِ إِنّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ
يقول: اذهبوا بهذا القميص {فألقوه على وجه أبي يأت بصير} وكان قد عمي من كثرة البكاء, {وأتوني بأهلكم أجمعين} أي بجميع بني يعقوب, {ولما فصلت العير} أي خرجت من مصر {قال أبوهم} يعني يعقوب عليه السلام لمن بقي عنده من بنيه {إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون} تنسبوني إلى الفند والكبر قال عبد الرزاق: أنبأنا إسرائيل عن أبي سنان, عن عبد الله بن أبي الهذيل, قال: سمعت ابن عباس يقول: ولما فصلت العير, قال: لما خرجت العير هاجت ريح, فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف, فقال {إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون} قال: فوجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام, وكذا رواه سفيان الثوري وشعبة وغيرهما عن أبي سنان به وقال الحسن وابن جريج: كان بينهما ثمانون فرسخاً, وكان بينه وبينه منذ افترقا ثمانون سنة.
وقوله {لولا أن تفندون} قال ابن عباس ومجاهد وعطاء وقتادة وسعيد بن جبير تسفهون وقال مجاهد أيضاً والحسن: تهرمون. وقولهم {إنك لفي ضلالك القديم} قال ابن عباس: لفي خطئك القديم. وقال قتادة: أي من حب يوسف لا تنساه ولاتسلاه, قالوا لوالدهم كلمة غليظة لم يكن ينبغي لهم أن يقولوها لوالدهم ولا لنبي الله صلى الله عليه وسلم, وكذا قال السدي وغيره.